الأحد، ٣ يونيو ٢٠١٢

قارئة الفنجان...



الصمت مرة أخري ، لكنه هذه المرة صمت يختلف...
عادة يأخذ المرضي الجدد وقتا في ترتيب أفكارهم و محاولة إيجاد مدخل للحديث ، لكن تعابير وجه هذا الرجل لا تقول أبدا أنه يحاول الإستعداد لقول شئ ، تلك تعابير شخص يحدث ذاته فعليا و كأنما يفترض بالجميع استشفاف ما بداخله بهذه الطريقة...
-
هل تريد مني المبادرة بالحديث ؟
-
لا ، سأتحدث وحدي.
-
حسنا أرجوك أن تفعل.
مط شفتيه في تأزم قائلا...
-
ما يجعلني عاجزا عن الحديث هو أن هناك قطعة حيوية للغاية ناقصة في قصتي مع الأسف ، و هي أنني لا أدرك تحديدا كيف ولا متي بدأت ، و لكني أدرك جيدا كيف و متي لم تبدأ إن صح التعبير ، و علي كل حال فإنني و قبل أي شئ أريد أن أسألك سؤالا.
-
تفضل.
-
هل تؤمنين بقراءة الفنجان ؟
**********************
الأسطورة التركية تقول : تعددت الفناجين و لكنها واحدة ، فقط واحدة...
لا تجعلها تقرأ فنجانك ، لا تتركها تمسك بلجامك...
**********************
في مقهي قارئة الفنجان بشارع السودان لا توجد سوي أغنية واحدة تتكرر باستمرار ، لكن احتمالات جلوسك ساعة كاملة في هذا المكان أقل من أن تتيح لك فرصة الإستماع لهذه الأغنية الطويلة بأكملها...
و علي كل حال فهي لم تتأخر كثيرا فقد جائت في موعدها ، قارئة شابة و عصرية للغاية ، و أنا الذي كنت أتسائل منذ دقائق كيف سأتحاشي الحرج الناجم عن جلوسي في مكان فاخر كهذا مع "ذات الملس الأسود" التي كانت في خيالي منذ دقائق...
-
أستاذ آدم ؟
مدت يدها نحوي و علي وجهها ابتسامة طبيعية للغاية و كأنها جائت لنتحدث سويا عن مستقبل الطاقة الشمسية في بلغاريا ، أحيانا يصبح من الإستفزاز ألا تلتزم بقواعد اللعبة الطفولية طالما أنك قبلت بلعبها معي ، إن ذلك يجعلني الأحمق الوحيد هاهنا...
صافحتها مترددا بينما اتخذت هي مقعدا أمامي قائلة بذات الإبتسامة المستفزة...
-
رجاءا حاول أن تزيح علامات استفهامك مؤقتا.
-
لا تؤاخذيني أنا فقط أشعر ببعض الإرتياب ، أعني أنني...
-
لم تصادف قارئة فنجان بهذا النمط العصري من قبل.
-
لم أصادف قارئة فنجان أصلا في حياتي.
-
هل تذكر لماذا نحن هنا ؟
-
لا ، و الغريب أنني حتي لا أجد بداخلي دافعا لمحاولة التذكر ، و كأن هذا المكان هو الحقيقة الوحيدة التي أعرفها في هذا العالم ، و تلك الأغنية هي الصمت السرمدي ذاته.
مطت شفتيها في إعجاب قائلة...
-
إذن أنت أحد الذين ينسون أحلامهم بكثرة ، لكنك أكثرهم طلاقة و تعبيرا ، أتعشم أن يكون فنجانك مثيرا بقدرك.
نظرت لها مستفهما فقالت...
-
لقد تقابلنا أمس ، في الحلم ، لكنك نسيت ، عليك بتناول الموز بكثرة فهو مفيد لمن هو في مثل حالتك.
**********************
المشكلة لا تتعلق بكونها قرأت فنجانك ، المشكلة أنك اخترتها دونا عن كل نساء الأرض لتقرأ لك فنجانك...
**********************
لثوان ظلت تنظر داخل فنجاني بشغف ، فقط دون أن تبدي أي رد فعل واضح...
-
ما الأخبار ؟
-
أعلم كم أنك بحاجة لبعض السحر في تلك الجلسة الباردة ، ثق أنني لست ببخيلة مع ضيوفي.
-
أنا لا أريد سحرا ، فقط أخبريني بما ترين.
-
أحيانا تستلزم الحقيقة سحرا ، ثم إنني لست من سيخبرك.
-
و من سيخبرني إذن ؟
هنا رفعت عيناها عن الفنجان نحوي مبتسمة في خبث ، و حينها بدأ الجنون الحقيقي...
**********************
-
أتعشم ألا تكون قد أدارت أغنية "الملاحة" بعد ذلك.
-
أتعشم أيضا أن تأخذي ما أقول علي محمل الجد ، لقد دفعت نقودا في هذه الجلسة ليس لأنني أريد علاجا و لكن فقط لأنني أريد التحدث مع من يستمع لي دون سخرية.
-
سامحني لكن الأمر أوضح من أن تحكيه ، حتما قامت تلك الفتاة بسرقتك بعدها و أنت هنا كي تشكو لي من سذاجتك و طيبتك في التعامل مع الناس ، فقط لأخبرك أنك عينة نادرة للغاية في هذا الزمان و عليك ألا تسمح للأوغاد أن....
-
هل تظنين الأمر بهذه السطحية حقا ؟ و الأهم من ذلك هل تتعاملين هكذا مع كل المرضي ؟ و الأهم من كل ذلك هل أبدو لك بهذه السذاجة حقا ؟
**********************
جلست و الثقة بعينيها...
تتأمل فنجاني المقلوب...
قالت يا ولدي لا تهلع...
فالموت عليك هو المكتوب...
**********************
وددت لو أن الألحان ذاتها تغيرت ، فلطالما وجدت كلمات قباني العميقة مظلومة مع هذه الألحان ال"هشك بشك" ، لكن ما حدث أن الكلمات ذاتها تغيرت ، نعم فجأة صار عبد الحليم يغني من أجل فنجاني أنا و الغريب أن ميزان الأغنية لا يختل أبدا و كأنها صنعت لأجل فنجاني...
فجأة كف عبد الحليم عن التغزل في محاسن حبيبته الوهمية ذات الشعر الغجري المجنون ليتحدث عن قلب فارغ و كهوف مظلمة و طريق مقفر أطول من سور الصين...
**********************
-
كانت "الملاحة" تكفي لتؤدي ذات الغرض.
تجاهل سخريتي قائلا في حماس...
-
في الواقع إن لدي نظرية في هذا الشأن ، إنها أشبه بأوراق تاروت صوتية ، أعني أنها قوالب صوتية جاهزة بصوت عبد الحليم و كل قالب يرمز لحدث معين في حياة صاحب الفنجان ، بالضبط كما ترمز الورقة الثالثة عشر للموت و ورقة مصارعة الأسد للقوة.
المشكلة هنا أن الموت كان أول أوراقي ، فبماذا تنتهي الأوراق إذن ؟
**********************
-
جري إيه يا والدي ؟ هقراله الفنجان.
-
في حد بيعمل كده دلوقتي ؟
.
.
سك علي بناتك-1980
**********************
-
في الواقع لا أحد يفعل ، لكن كل الطرق الفاشلة تثبت فشلها بتكرار فشلها في حل ما صممت لتفشل في حله ، و برغم ذلك مازال هناك الكثير ممن يصدقون في صحة ما تقوله الفناجين ، السبب وراء ذلك في رأيي أنه لابد دائما من وجود من يحي الأسطورة من وقت لآخر ، يحييها بحق ، كي لا تموت.
-
بصفتي امرأة سيكولوجية فلن أنفي هذا الهراء أو أؤكده ، و لكني سأقول أنك حقا تبدو لي أكثر ذكاء من أن تحاول معرفة مستقبلك.
-
لم يكن هذا رأيك منذ قليل ، أنت فقط تحاولين معرفة أسبابي بطريقة ملتوية لتعزيز تشخيصاتك السيكولوجية ، مازلت تنظرين لي علي أنني مريض.
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت قائلة...
-
حسنا كنت أقول ذلك لأستشف أسبابك ، و لكني أفعل ذلك لأن الأحلام قد تعبر عن رغباتك الغير محققة ، رغباتك التي قد تكون أنت نفسك غير معترف بها لنفسك لسبب ما ، لكنك احتفظت بها في اللاشعور ، ولو أننا سنتحدث بنفس منطقك الخيالي لقلنا أن رغباتك بلغت من القوة لدرجة أن أصدائها خرجت عن نطاقك النفسي حتي وصلت لأصل الأسطورة الحقيقية ، أنت لم تقابل أي قارئة فنجان ، أنت قابلت قارئة الفنجان ذاتها.
فغر فاهه لثوان مندهشا فقلت...
-
أنا أقرأ أيضا عما وراء الطبيعة ، لكني لا أميل لتصديق هذه الأمور سريعا ، ليس قبل استنفاذ كل تشخيصاتي السيكولوجية علي الأقل.
-
هل تعنين أنني من استدعاها في الأساس ؟
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت مرة أخري قائلة...
-
شئ كهذا ، و بالمناسبة فإن ما قالته لك عن الموز صحيح علميا ، لكنها في الواقع كانت ترمز بالموز لشئ آخر ، شئ أخجل حقا من إخبارك به.
**********************
تقول الأسطورة التركية ما معناه أن قارئة الفنجان لا تعترف إلا بالمستقبل فقط ، ستسخر منك كثيرا إن كنت لا تعرف عنها تلك المعلومة البسيطة...
لذا ، فلتعلم أن حضورها هو حضور للحاضر و المستقبل فقط ، فهي لا تعترف بالماضي ولا تقرأ سوي المستقبل ، و بصيغة سيكولوجية أكثر فإنها تسبب لك اضطرابا وجدانيا مؤقتا ، وجودها يفرض سيطرته علي وجدانك و إدراكك للواقع ، يشوهه ، و يمحي خبراتك الفطرية السابقة مع قوانين الزمان و المكان...
**********************
بعدما أنهي عبد الحليم قراءة فنجاني بدقائق استعدت السيطرة علي حواسي قائلا...
-
ما المشكلة أن يكون مصيري الموت علي كل حال ؟ أليس هذا مصير كل كائن حي مهما طال عمره أو قصر ؟
-
هذا صحيح ، و لكني لم أجد حدثا بارزا في حياتك سواه ، لم أجد سوي خط طويل متعدد الإلتواءات و في نهايته الموت...
**********************
يا ولدي...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف أبدا فنجانا يشبه فنجانك...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف شيئا ، إطلاقا لم أعرف شيئا...
**********************
-
إن كانت حياتك بهذا الفراغ حقا فما سر رغبتك إذن في معرفة المستقبل.
التزم آدم الصمت لثوان ناظرا نحو الأرض ثم قال دون أن ينظر لي...
-
ربما كنت أحاول معرفة ما إذا كان سيحدث مستقبلا ما يملأ هذا الفراغ ، فليس هناك ما قد يدفع المرء لفعل شئ أكثر من عدم وجود شئ لفعله.
هكذا قال كلمته ثم اتجه نحو الباب مغادرا...
لم أسأله إلي أين هو ذاهب و لم أحاول منعه ، فأنا مع الأسف أعلم جيدا...
قليلون هم من يريدون معرفة ما بانتظارهم في هذه الحياة ، حتي أنني أتعجب من كمية الأفلام التي تتحدث عن المستقبل و كأنه سر يتهافت الكل علي معرفته ، لكن الحقيقة أنه ليس كل الناس لديهم من الفراغ في حياتهم ما يكفي ليتسائلوا عن مستقبلهم...

3 التعليقات:

غير معرف يقول...

البوست رائع يا حسنى

و هو محتاج تعليق يليق بيه

بس حقيقى مش قادر أعلق

بس كتبت دة علشان اقولك ان البوست حقيقى

Israà A. Youssuf يقول...

آخر فقرة وهمية..

تحياتي :))

Ghada يقول...

وصفك للأشياء رائع بجد وحقيقة فلا يتمنى احد قراءة فنجانة ليعرف ماسيحدث سوى من يشعر بفراغ ماضيه وحاضره :)
تسلم إيدك

Share |