الصمت مرة أخري ، لكنه
هذه المرة صمت يختلف...
عادة يأخذ المرضي الجدد وقتا في ترتيب أفكارهم و محاولة إيجاد مدخل
للحديث ، لكن تعابير وجه هذا الرجل لا تقول أبدا أنه يحاول الإستعداد لقول شئ ،
تلك تعابير شخص يحدث ذاته فعليا و كأنما يفترض بالجميع استشفاف ما بداخله بهذه
الطريقة...
-هل تريد مني المبادرة بالحديث ؟
-لا ، سأتحدث وحدي.
-حسنا أرجوك أن تفعل.
مط شفتيه في تأزم قائلا...
-ما يجعلني عاجزا عن الحديث هو أن هناك قطعة حيوية للغاية ناقصة في
قصتي مع الأسف ، و هي أنني لا أدرك تحديدا كيف ولا متي بدأت ، و لكني أدرك جيدا
كيف و متي لم تبدأ إن صح التعبير ، و علي كل حال فإنني و قبل أي شئ أريد أن أسألك
سؤالا.
-تفضل.
-هل تؤمنين بقراءة الفنجان ؟
**********************
الأسطورة التركية تقول : تعددت الفناجين و لكنها واحدة ، فقط واحدة...
لا تجعلها تقرأ فنجانك ، لا تتركها تمسك بلجامك...
**********************
في مقهي قارئة الفنجان بشارع السودان لا توجد سوي أغنية واحدة تتكرر
باستمرار ، لكن احتمالات جلوسك ساعة كاملة في هذا المكان أقل من أن تتيح لك فرصة
الإستماع لهذه الأغنية الطويلة بأكملها...
و علي كل حال فهي لم تتأخر كثيرا فقد جائت في موعدها ، قارئة شابة و
عصرية للغاية ، و أنا الذي كنت أتسائل منذ دقائق كيف سأتحاشي الحرج الناجم عن
جلوسي في مكان فاخر كهذا مع "ذات الملس الأسود" التي كانت في خيالي منذ
دقائق...
-أستاذ آدم ؟
مدت يدها نحوي و علي وجهها ابتسامة طبيعية للغاية و كأنها جائت
لنتحدث سويا عن مستقبل الطاقة الشمسية في بلغاريا ، أحيانا يصبح من الإستفزاز ألا
تلتزم بقواعد اللعبة الطفولية طالما أنك قبلت بلعبها معي ، إن ذلك يجعلني الأحمق
الوحيد هاهنا...
صافحتها مترددا بينما اتخذت هي مقعدا أمامي قائلة بذات الإبتسامة
المستفزة...
-رجاءا حاول أن تزيح علامات استفهامك مؤقتا.
-لا تؤاخذيني أنا فقط أشعر ببعض الإرتياب ، أعني أنني...
-لم تصادف قارئة فنجان بهذا النمط العصري من قبل.
-لم أصادف قارئة فنجان أصلا في حياتي.
-هل تذكر لماذا نحن هنا ؟
-لا ، و الغريب أنني حتي لا أجد بداخلي دافعا لمحاولة التذكر ، و كأن
هذا المكان هو الحقيقة الوحيدة التي أعرفها في هذا العالم ، و تلك الأغنية هي
الصمت السرمدي ذاته.
مطت شفتيها في إعجاب قائلة...
-إذن أنت أحد الذين ينسون أحلامهم بكثرة ، لكنك أكثرهم طلاقة و تعبيرا
، أتعشم أن يكون فنجانك مثيرا بقدرك.
نظرت لها مستفهما فقالت...
-لقد تقابلنا أمس ، في الحلم ، لكنك نسيت ، عليك بتناول الموز بكثرة
فهو مفيد لمن هو في مثل حالتك.
**********************
المشكلة لا تتعلق بكونها قرأت فنجانك ، المشكلة أنك اخترتها دونا عن
كل نساء الأرض لتقرأ لك فنجانك...
**********************
لثوان ظلت تنظر داخل فنجاني بشغف ، فقط دون أن تبدي أي رد فعل واضح...
-ما الأخبار ؟
-أعلم كم أنك بحاجة لبعض السحر في تلك الجلسة الباردة ، ثق أنني لست
ببخيلة مع ضيوفي.
-أنا لا أريد سحرا ، فقط أخبريني بما ترين.
-أحيانا تستلزم الحقيقة سحرا ، ثم إنني لست من سيخبرك.
-و من سيخبرني إذن ؟
هنا رفعت عيناها عن الفنجان نحوي مبتسمة في خبث ، و حينها بدأ الجنون
الحقيقي...
**********************
-أتعشم ألا تكون قد أدارت أغنية "الملاحة" بعد ذلك.
-أتعشم أيضا أن تأخذي ما أقول علي محمل الجد ، لقد دفعت نقودا في هذه
الجلسة ليس لأنني أريد علاجا و لكن فقط لأنني أريد التحدث مع من يستمع لي دون
سخرية.
-سامحني لكن الأمر أوضح من أن تحكيه ، حتما قامت تلك الفتاة بسرقتك
بعدها و أنت هنا كي تشكو لي من سذاجتك و طيبتك في التعامل مع الناس ، فقط لأخبرك
أنك عينة نادرة للغاية في هذا الزمان و عليك ألا تسمح للأوغاد أن....
-هل تظنين الأمر بهذه السطحية حقا ؟ و الأهم من ذلك هل تتعاملين هكذا
مع كل المرضي ؟ و الأهم من كل ذلك هل أبدو لك بهذه السذاجة حقا ؟
**********************
جلست و الثقة بعينيها...
تتأمل فنجاني المقلوب...
قالت يا ولدي لا تهلع...
فالموت عليك هو المكتوب...
**********************
وددت لو أن الألحان ذاتها تغيرت ، فلطالما وجدت كلمات قباني العميقة
مظلومة مع هذه الألحان ال"هشك بشك" ، لكن ما حدث أن الكلمات ذاتها تغيرت
، نعم فجأة صار عبد الحليم يغني من أجل فنجاني أنا و الغريب أن ميزان الأغنية لا
يختل أبدا و كأنها صنعت لأجل فنجاني...
فجأة كف عبد الحليم عن التغزل في محاسن حبيبته الوهمية ذات الشعر
الغجري المجنون ليتحدث عن قلب فارغ و كهوف مظلمة و طريق مقفر أطول من سور الصين...
**********************
-كانت "الملاحة" تكفي لتؤدي ذات الغرض.
تجاهل سخريتي قائلا في حماس...
-في الواقع إن لدي نظرية في هذا الشأن ، إنها أشبه بأوراق تاروت صوتية
، أعني أنها قوالب صوتية جاهزة بصوت عبد الحليم و كل قالب يرمز لحدث معين في حياة
صاحب الفنجان ، بالضبط كما ترمز الورقة الثالثة عشر للموت و ورقة مصارعة الأسد
للقوة.
المشكلة هنا أن الموت كان أول أوراقي ، فبماذا تنتهي الأوراق إذن ؟
**********************
-جري إيه يا والدي ؟ هقراله الفنجان.
-في حد بيعمل كده دلوقتي ؟
.
.
سك علي بناتك-1980
**********************
-في الواقع لا أحد يفعل ، لكن كل الطرق الفاشلة تثبت فشلها بتكرار
فشلها في حل ما صممت لتفشل في حله ، و برغم ذلك مازال هناك الكثير ممن يصدقون في
صحة ما تقوله الفناجين ، السبب وراء ذلك في رأيي أنه لابد دائما من وجود من يحي
الأسطورة من وقت لآخر ، يحييها بحق ، كي لا تموت.
-بصفتي امرأة سيكولوجية فلن أنفي هذا الهراء أو أؤكده ، و لكني سأقول
أنك حقا تبدو لي أكثر ذكاء من أن تحاول معرفة مستقبلك.
-لم يكن هذا رأيك منذ قليل ، أنت فقط تحاولين معرفة أسبابي بطريقة
ملتوية لتعزيز تشخيصاتك السيكولوجية ، مازلت تنظرين لي علي أنني مريض.
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت قائلة...
-حسنا كنت أقول ذلك لأستشف أسبابك ، و لكني أفعل ذلك لأن الأحلام قد
تعبر عن رغباتك الغير محققة ، رغباتك التي قد تكون أنت نفسك غير معترف بها لنفسك
لسبب ما ، لكنك احتفظت بها في اللاشعور ، ولو أننا سنتحدث بنفس منطقك الخيالي
لقلنا أن رغباتك بلغت من القوة لدرجة أن أصدائها خرجت عن نطاقك النفسي حتي وصلت
لأصل الأسطورة الحقيقية ، أنت لم تقابل أي قارئة فنجان ، أنت قابلت قارئة الفنجان
ذاتها.
فغر فاهه لثوان مندهشا فقلت...
-أنا أقرأ أيضا عما وراء الطبيعة ، لكني لا أميل لتصديق هذه الأمور
سريعا ، ليس قبل استنفاذ كل تشخيصاتي السيكولوجية علي الأقل.
-هل تعنين أنني من استدعاها في الأساس ؟
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت مرة أخري قائلة...
-شئ كهذا ، و بالمناسبة فإن ما قالته لك عن الموز صحيح علميا ، لكنها
في الواقع كانت ترمز بالموز لشئ آخر ، شئ أخجل حقا من إخبارك به.
**********************
تقول الأسطورة التركية ما معناه أن قارئة الفنجان لا تعترف إلا
بالمستقبل فقط ، ستسخر منك كثيرا إن كنت لا تعرف عنها تلك المعلومة البسيطة...
لذا ، فلتعلم أن حضورها هو حضور للحاضر و المستقبل فقط ، فهي لا
تعترف بالماضي ولا تقرأ سوي المستقبل ، و بصيغة سيكولوجية أكثر فإنها تسبب لك
اضطرابا وجدانيا مؤقتا ، وجودها يفرض سيطرته علي وجدانك و إدراكك للواقع ، يشوهه ،
و يمحي خبراتك الفطرية السابقة مع قوانين الزمان و المكان...
**********************
بعدما أنهي عبد الحليم قراءة فنجاني بدقائق استعدت السيطرة علي حواسي
قائلا...
-ما المشكلة أن يكون مصيري الموت علي كل حال ؟ أليس هذا مصير كل كائن
حي مهما طال عمره أو قصر ؟
-هذا صحيح ، و لكني لم أجد حدثا بارزا في حياتك سواه ، لم أجد سوي خط
طويل متعدد الإلتواءات و في نهايته الموت...
**********************
يا ولدي...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف أبدا فنجانا يشبه فنجانك...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف شيئا ، إطلاقا لم أعرف شيئا...
**********************
-إن كانت حياتك بهذا الفراغ حقا فما سر رغبتك إذن في معرفة المستقبل.
التزم آدم الصمت لثوان ناظرا نحو الأرض ثم قال دون أن ينظر لي...
-ربما كنت أحاول معرفة ما إذا كان سيحدث مستقبلا ما يملأ هذا الفراغ ،
فليس هناك ما قد يدفع المرء لفعل شئ أكثر من عدم وجود شئ لفعله.
هكذا قال كلمته ثم اتجه نحو الباب مغادرا...
لم أسأله إلي أين هو ذاهب و لم أحاول منعه ، فأنا مع الأسف أعلم جيدا...
قليلون هم من يريدون معرفة ما بانتظارهم في هذه الحياة ، حتي أنني أتعجب من كمية الأفلام التي تتحدث عن المستقبل و كأنه سر يتهافت الكل علي معرفته ، لكن الحقيقة أنه ليس كل الناس لديهم من الفراغ في حياتهم ما يكفي ليتسائلوا عن مستقبلهم...