الثلاثاء، ١٢ يونيو ٢٠١٢

أسطورة مبني السكاشن...



بقدر ما أحب الصباح إلا أنه يحمل لي قدراً لا بأس به من الذكريات السوداء ، خاصة مع الإمتحانات... 

و بالنسبة لطلبة حلوان فهم يدركون جيداً ذلك الشعور اللعين الذي يراودك أثناء انتظارك عند مبني السكاشن ، بينما الرجل المزعج-الذي أتمني رؤية وجهه قبل تخرجي ولو لمرة-يتحدث في مكبر الصوت من مكان ما ، متوعداً الطلبة بيوم أسود من قرن الخروب إن قام أحدهم بالغش او اصطحاب نصف قصاصة ورق معه... 
الموقف في أول سنتين يختلف اختلافا جذريا عنه في آخر سنتين... 
فنظرا لأن مواعيد الإمتحانات في أول سنتين تبدأ في الصباح فإن لخبراتك السابقة مع الإستيقاظ المبكر للذهاب للسجن الدراسي المسمي "المدرسة" أثرها في جعل قلبك ينتفض هلعا ككتكوت قد وقع في إناء شربه للتو... 
ولو أنك حظيت في طريقك لحلوان بعربة مترو يؤمن ركابها بأن الصمت مفيد أحياناً فإنني أحسدك حقا ، خاصة لو لم تصادف في طريقك بمعجزة ما بعض الطلبة المبتسمين إلي الأبد المثرثرين بلا انقطاع و كأنهم ذاهبون إلي كوكي بارك و ليس إلي امتحان... 
مبني السكاشن له هيبته حقاً في أول سنتين ، خاصة و أن شبورة الصباح في حلوان تصنع حوله جواً من الغموض يذكرك بقصور مصاصي الدماء ، و علي أي حال فإن كل هذا التوتر يزول ما أن تخرج من اللجنة ، صدقاً تجد في نفسك رغبة غريبة في تقبيل مشرف الدور أو أيا كان ما يفعله ذلك الكائن العصبي الذي يتنقل بين اللجان كالفرقع لوز متوعداً الطلبة بيوم أكثر سواداً من الذي أخبرهم به رجل الميكروفون ، الفرق هنا أنه يتوعد الجميع بلا استثناء ، فهو لديه افتراض ثابت أنك جئت هنا فقط لتغش... 
أيا كانت طبيعة آدائك في الإمتحان فإنك-بعد أن تنتهي من تقبيل المشرف-ستهبط للأسفل شاعراً أن العصافير تغرد فقط من أجلك أنت ، و أن الشمس دافئة و جميلة ، و أنه لا شئ في هذه الحياة يستحق الإنزعاج لأجله طالما انتهي الإمتحان... 
أما في آخر سنتين فالأمر يختلف كثيراً ، فامتحانك يبدأ من الساعة الواحدة ظهراً ، أي أنك أحد المحظوظين ببعض الساعات الإضافية لمراجعة المادة في منزلك ، و ربما رؤيتها للمرة الأولي ، لكنك ما أن تهبط من منزلك حتي تدرك أن الشمس دافئة أكثر من اللازم لدرجة أنها لا تطاق ، المترو حار للغاية و الناس جميعا ألسنتها أشبه بأجنحة الذباب... 
مبني السكاشن يبدو سخيفاً و مستفزاً للغاية حتي لتشعر أنك تريد الدخول سريعاً و الانتهاء من كل هذا حتي لو كنت ستترك الورقة فارغة ، علي الأقل هناك بالداخل مراوح رائعة تنقذك من هذا الجو اللعين... 
لكنك-بعد أن تنتهي من تقبيل المشرف كالعادة-لن تشعر بالأسفل بفارق كبير ، فالشمس كما هي و ازدادت حرارة ، لكنك علي الأقل تشعر بأن الحياة صارت أجمل قليلا...

الأحد، ٣ يونيو ٢٠١٢

قارئة الفنجان...



الصمت مرة أخري ، لكنه هذه المرة صمت يختلف...
عادة يأخذ المرضي الجدد وقتا في ترتيب أفكارهم و محاولة إيجاد مدخل للحديث ، لكن تعابير وجه هذا الرجل لا تقول أبدا أنه يحاول الإستعداد لقول شئ ، تلك تعابير شخص يحدث ذاته فعليا و كأنما يفترض بالجميع استشفاف ما بداخله بهذه الطريقة...
-
هل تريد مني المبادرة بالحديث ؟
-
لا ، سأتحدث وحدي.
-
حسنا أرجوك أن تفعل.
مط شفتيه في تأزم قائلا...
-
ما يجعلني عاجزا عن الحديث هو أن هناك قطعة حيوية للغاية ناقصة في قصتي مع الأسف ، و هي أنني لا أدرك تحديدا كيف ولا متي بدأت ، و لكني أدرك جيدا كيف و متي لم تبدأ إن صح التعبير ، و علي كل حال فإنني و قبل أي شئ أريد أن أسألك سؤالا.
-
تفضل.
-
هل تؤمنين بقراءة الفنجان ؟
**********************
الأسطورة التركية تقول : تعددت الفناجين و لكنها واحدة ، فقط واحدة...
لا تجعلها تقرأ فنجانك ، لا تتركها تمسك بلجامك...
**********************
في مقهي قارئة الفنجان بشارع السودان لا توجد سوي أغنية واحدة تتكرر باستمرار ، لكن احتمالات جلوسك ساعة كاملة في هذا المكان أقل من أن تتيح لك فرصة الإستماع لهذه الأغنية الطويلة بأكملها...
و علي كل حال فهي لم تتأخر كثيرا فقد جائت في موعدها ، قارئة شابة و عصرية للغاية ، و أنا الذي كنت أتسائل منذ دقائق كيف سأتحاشي الحرج الناجم عن جلوسي في مكان فاخر كهذا مع "ذات الملس الأسود" التي كانت في خيالي منذ دقائق...
-
أستاذ آدم ؟
مدت يدها نحوي و علي وجهها ابتسامة طبيعية للغاية و كأنها جائت لنتحدث سويا عن مستقبل الطاقة الشمسية في بلغاريا ، أحيانا يصبح من الإستفزاز ألا تلتزم بقواعد اللعبة الطفولية طالما أنك قبلت بلعبها معي ، إن ذلك يجعلني الأحمق الوحيد هاهنا...
صافحتها مترددا بينما اتخذت هي مقعدا أمامي قائلة بذات الإبتسامة المستفزة...
-
رجاءا حاول أن تزيح علامات استفهامك مؤقتا.
-
لا تؤاخذيني أنا فقط أشعر ببعض الإرتياب ، أعني أنني...
-
لم تصادف قارئة فنجان بهذا النمط العصري من قبل.
-
لم أصادف قارئة فنجان أصلا في حياتي.
-
هل تذكر لماذا نحن هنا ؟
-
لا ، و الغريب أنني حتي لا أجد بداخلي دافعا لمحاولة التذكر ، و كأن هذا المكان هو الحقيقة الوحيدة التي أعرفها في هذا العالم ، و تلك الأغنية هي الصمت السرمدي ذاته.
مطت شفتيها في إعجاب قائلة...
-
إذن أنت أحد الذين ينسون أحلامهم بكثرة ، لكنك أكثرهم طلاقة و تعبيرا ، أتعشم أن يكون فنجانك مثيرا بقدرك.
نظرت لها مستفهما فقالت...
-
لقد تقابلنا أمس ، في الحلم ، لكنك نسيت ، عليك بتناول الموز بكثرة فهو مفيد لمن هو في مثل حالتك.
**********************
المشكلة لا تتعلق بكونها قرأت فنجانك ، المشكلة أنك اخترتها دونا عن كل نساء الأرض لتقرأ لك فنجانك...
**********************
لثوان ظلت تنظر داخل فنجاني بشغف ، فقط دون أن تبدي أي رد فعل واضح...
-
ما الأخبار ؟
-
أعلم كم أنك بحاجة لبعض السحر في تلك الجلسة الباردة ، ثق أنني لست ببخيلة مع ضيوفي.
-
أنا لا أريد سحرا ، فقط أخبريني بما ترين.
-
أحيانا تستلزم الحقيقة سحرا ، ثم إنني لست من سيخبرك.
-
و من سيخبرني إذن ؟
هنا رفعت عيناها عن الفنجان نحوي مبتسمة في خبث ، و حينها بدأ الجنون الحقيقي...
**********************
-
أتعشم ألا تكون قد أدارت أغنية "الملاحة" بعد ذلك.
-
أتعشم أيضا أن تأخذي ما أقول علي محمل الجد ، لقد دفعت نقودا في هذه الجلسة ليس لأنني أريد علاجا و لكن فقط لأنني أريد التحدث مع من يستمع لي دون سخرية.
-
سامحني لكن الأمر أوضح من أن تحكيه ، حتما قامت تلك الفتاة بسرقتك بعدها و أنت هنا كي تشكو لي من سذاجتك و طيبتك في التعامل مع الناس ، فقط لأخبرك أنك عينة نادرة للغاية في هذا الزمان و عليك ألا تسمح للأوغاد أن....
-
هل تظنين الأمر بهذه السطحية حقا ؟ و الأهم من ذلك هل تتعاملين هكذا مع كل المرضي ؟ و الأهم من كل ذلك هل أبدو لك بهذه السذاجة حقا ؟
**********************
جلست و الثقة بعينيها...
تتأمل فنجاني المقلوب...
قالت يا ولدي لا تهلع...
فالموت عليك هو المكتوب...
**********************
وددت لو أن الألحان ذاتها تغيرت ، فلطالما وجدت كلمات قباني العميقة مظلومة مع هذه الألحان ال"هشك بشك" ، لكن ما حدث أن الكلمات ذاتها تغيرت ، نعم فجأة صار عبد الحليم يغني من أجل فنجاني أنا و الغريب أن ميزان الأغنية لا يختل أبدا و كأنها صنعت لأجل فنجاني...
فجأة كف عبد الحليم عن التغزل في محاسن حبيبته الوهمية ذات الشعر الغجري المجنون ليتحدث عن قلب فارغ و كهوف مظلمة و طريق مقفر أطول من سور الصين...
**********************
-
كانت "الملاحة" تكفي لتؤدي ذات الغرض.
تجاهل سخريتي قائلا في حماس...
-
في الواقع إن لدي نظرية في هذا الشأن ، إنها أشبه بأوراق تاروت صوتية ، أعني أنها قوالب صوتية جاهزة بصوت عبد الحليم و كل قالب يرمز لحدث معين في حياة صاحب الفنجان ، بالضبط كما ترمز الورقة الثالثة عشر للموت و ورقة مصارعة الأسد للقوة.
المشكلة هنا أن الموت كان أول أوراقي ، فبماذا تنتهي الأوراق إذن ؟
**********************
-
جري إيه يا والدي ؟ هقراله الفنجان.
-
في حد بيعمل كده دلوقتي ؟
.
.
سك علي بناتك-1980
**********************
-
في الواقع لا أحد يفعل ، لكن كل الطرق الفاشلة تثبت فشلها بتكرار فشلها في حل ما صممت لتفشل في حله ، و برغم ذلك مازال هناك الكثير ممن يصدقون في صحة ما تقوله الفناجين ، السبب وراء ذلك في رأيي أنه لابد دائما من وجود من يحي الأسطورة من وقت لآخر ، يحييها بحق ، كي لا تموت.
-
بصفتي امرأة سيكولوجية فلن أنفي هذا الهراء أو أؤكده ، و لكني سأقول أنك حقا تبدو لي أكثر ذكاء من أن تحاول معرفة مستقبلك.
-
لم يكن هذا رأيك منذ قليل ، أنت فقط تحاولين معرفة أسبابي بطريقة ملتوية لتعزيز تشخيصاتك السيكولوجية ، مازلت تنظرين لي علي أنني مريض.
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت قائلة...
-
حسنا كنت أقول ذلك لأستشف أسبابك ، و لكني أفعل ذلك لأن الأحلام قد تعبر عن رغباتك الغير محققة ، رغباتك التي قد تكون أنت نفسك غير معترف بها لنفسك لسبب ما ، لكنك احتفظت بها في اللاشعور ، ولو أننا سنتحدث بنفس منطقك الخيالي لقلنا أن رغباتك بلغت من القوة لدرجة أن أصدائها خرجت عن نطاقك النفسي حتي وصلت لأصل الأسطورة الحقيقية ، أنت لم تقابل أي قارئة فنجان ، أنت قابلت قارئة الفنجان ذاتها.
فغر فاهه لثوان مندهشا فقلت...
-
أنا أقرأ أيضا عما وراء الطبيعة ، لكني لا أميل لتصديق هذه الأمور سريعا ، ليس قبل استنفاذ كل تشخيصاتي السيكولوجية علي الأقل.
-
هل تعنين أنني من استدعاها في الأساس ؟
فتحت فمي لأقول شيئا ثم تراجعت مرة أخري قائلة...
-
شئ كهذا ، و بالمناسبة فإن ما قالته لك عن الموز صحيح علميا ، لكنها في الواقع كانت ترمز بالموز لشئ آخر ، شئ أخجل حقا من إخبارك به.
**********************
تقول الأسطورة التركية ما معناه أن قارئة الفنجان لا تعترف إلا بالمستقبل فقط ، ستسخر منك كثيرا إن كنت لا تعرف عنها تلك المعلومة البسيطة...
لذا ، فلتعلم أن حضورها هو حضور للحاضر و المستقبل فقط ، فهي لا تعترف بالماضي ولا تقرأ سوي المستقبل ، و بصيغة سيكولوجية أكثر فإنها تسبب لك اضطرابا وجدانيا مؤقتا ، وجودها يفرض سيطرته علي وجدانك و إدراكك للواقع ، يشوهه ، و يمحي خبراتك الفطرية السابقة مع قوانين الزمان و المكان...
**********************
بعدما أنهي عبد الحليم قراءة فنجاني بدقائق استعدت السيطرة علي حواسي قائلا...
-
ما المشكلة أن يكون مصيري الموت علي كل حال ؟ أليس هذا مصير كل كائن حي مهما طال عمره أو قصر ؟
-
هذا صحيح ، و لكني لم أجد حدثا بارزا في حياتك سواه ، لم أجد سوي خط طويل متعدد الإلتواءات و في نهايته الموت...
**********************
يا ولدي...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف أبدا فنجانا يشبه فنجانك...
بصرت و نجمت كثيرا...
لكني لم أعرف شيئا ، إطلاقا لم أعرف شيئا...
**********************
-
إن كانت حياتك بهذا الفراغ حقا فما سر رغبتك إذن في معرفة المستقبل.
التزم آدم الصمت لثوان ناظرا نحو الأرض ثم قال دون أن ينظر لي...
-
ربما كنت أحاول معرفة ما إذا كان سيحدث مستقبلا ما يملأ هذا الفراغ ، فليس هناك ما قد يدفع المرء لفعل شئ أكثر من عدم وجود شئ لفعله.
هكذا قال كلمته ثم اتجه نحو الباب مغادرا...
لم أسأله إلي أين هو ذاهب و لم أحاول منعه ، فأنا مع الأسف أعلم جيدا...
قليلون هم من يريدون معرفة ما بانتظارهم في هذه الحياة ، حتي أنني أتعجب من كمية الأفلام التي تتحدث عن المستقبل و كأنه سر يتهافت الكل علي معرفته ، لكن الحقيقة أنه ليس كل الناس لديهم من الفراغ في حياتهم ما يكفي ليتسائلوا عن مستقبلهم...
Share |